اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نادراً ما يقوم من مجلسه دون أن يدعو بهذه الكلمات لأصحابه: “اللهم، اجعل لنا من خشيتك ما يقيتنا من معاصيك، ومن طاعتك ما يحقق لنا دخول جنتك، ومن اليقين ما يخفف عنا مصائب الدنيا. وامنحنا متعة السمع والبصر والقوة ما دمتَ أحييتنا، واجعلها وراثة لنا. وانتقم لنا ممن ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همومنا ولا نهاية علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.” الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 3502 | خلاصة حكم المحدث : حسن

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا
  • في هذا الحديثِ دُعاءٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، جامِعٌ لكثيرٍ مِن أبوابِ الخيرِ وتحقيقِ السَّعادةِ في الدَّارَين؛ فقَد اشتَمَل على مَطالِبَ عَظيمةٍ فيما يَحتاجُ إليه العبدُ في دينِه ودُنياه، وفيه يَقولُ ابنُ عُمرَ رَضِي اللهُ عَنهما: “قَلَّما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَقومُ مِن مَجلِسٍ”، أي: نادِرًا ما يقومُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن مَجلِسٍ، “حتَّى يَدعُوَ بهؤلاءِ الكلماتِ”، أي: يكونُ حَريصًا على أن يَدعُوَ بهؤلاءِ الدَّعَواتِ لأصحابِه: “اللَّهمَّ اقْسِم لنا”، أي: اللَّهمَّ ارزُقْنا نَصيبًا وحَظًّا “مِن خَشيَتِك”، أي: مِن الخوفِ مِنك وتَعظيمِك وإجلالِك “ما يَحولُ بينَنا وبينَ مَعاصيك”، أي: تَكونُ هذه الخشيةُ حائِلًا ومانِعًا مِن الوُقوعِ في المعصيةِ والذُّنوبِ؛ وذلك أنَّ العَبدَ إذا امتَلَأ قلبُه إجلالًا وتَعظيمًا للهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ ذلك يَمنَعُه مِن أن يَرتَكِبَ المحظوراتِ، “ومِن طاعَتِك”، أي: وارزُقْنا القِيامَ بامتِثالِ والْتِزامِ ما تُحِبُّه وتَرْضاه مِن الأقوالِ والأفعالِ “ما تُبَلِّغُنا به”، أي: تُوصِّلُنا بهذه الطَّاعةِ “جنَّتَك” ورِضْوانَك، “ومِنَ اليقينِ”، أي: ارزُقْنا قوَّةَ الإيمانِ بما قدَّرتَه وكتَبْتَه مِن الحِكْمةِ وتَكفيرِ سيِّئاتِنا ورَفْعِ درَجاتِنا “ما تُهوِّنُ به علَينا”، أي: تُسهِّلُ بهذا اليقينِ علَينا “مُصيباتِ الدُّنيا”، أي: ما يقَعُ لنا مِن مِحَنٍ وابتِلاءاتٍ في الدُّنيا، “ومَتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا”، أي: اجعَلْنا مُنتفِعين بما أنعَمتَ علينا مِن نِعَمِ السَّمعِ والبصَرِ والقوَّةِ “ما أحيَيتَنا”، أي: مُدَّةَ بَقائِنا إلى أن نَموتَ، “واجعَلْه”، أي: اجعَلِ التَّمتُّعَ والانتِفاعَ بالسَّمعِ والبصَرِ والقوَّةِ “الوارِثَ منَّا”، أي: باقِيًا مُستمِرًّا بأنْ تكونَ صحيحةً وسليمةً إلى الموتِ، فكانت بمكانةِ الوارِثِ؛ لأنَّه هو مَن يَبْقى بعدَ وفاةِ مُورِّثِه، وقيل: اجعَلْ هذا الانتِفاعَ والتَّمتُّعَ في ذُرِّيَّتِنا مِن بَعدِنا، “واجعَلْ ثأرَنا”، أي: اجعَلْ انتِقامَنا وطلَبَنا لحَقِّنا “على مَن ظلَمَنا” لا يتَعدَّاه فنُدرِكُه منه، ولا تَجْعَلْنا مُعتَدين على غَيرِنا فنَكونَ ظالِمين، “وانصُرْنا”، أي: وارزُقْنا الظَّفرَ “على مَن عادانا”، أي: مَن تَعدَّى علينا بغيرِ حقٍّ.
  • “ولا تَجعَلْ مُصيبَتَنا في دينِنا”، أي: اللهمَّ لا تُصِبْنا بما يَنقُصُ دِينَنا من اعتقادِ سُوءٍ، وأكْلِ الحرامِ، أو فَترةٍ وكَسلٍ في العبادةِ وغيرِ ذلك مِن المعاصِي المهلِكات، والمصيبةُ في الدِّينِ هي المصيبةُ الحقيقيَّةُ؛ لأنَّه إذا أُبقِيَ على دِينِ المرءِ فما فاتَه من الدُّنيا شيءٌ، وإذا ضاعَ الدِّينُ لم يَفُزْ بشيءٍ، “ولا تَجعَلِ الدُّنيا أكبَرَ هَمِّنا”، أي: لا تجعَلْ أعظَمَ ما نَقصِدُه ونَهتَمُّ به ونَحزَنُ مِن أجلِه هو أمورَ الدُّنيا، فنَنشَغِلَ بها، وتُلهِيَنا عن العِبادةِ والطَّاعةِ، “ولا مَبْلغَ”، أي: ولا تجعَلِ الدُّنيا مُنتهَى وغايةَ “عِلْمِنا”، أي: لا يَكونُ عِلمُنا كلُّه هو التَّفكُّرَ في أحوالِ الدُّنْيا؛ بحيثُ نَكونُ ناسينَ للآخِرَةِ، “ولا تُسلِّطْ علينا مَن لا يَرحَمُنا “، أي: مِن القومِ الكافِرينَ، أو من الأُمراءِ الظَّالِمين، أو من السُّفهاءِ الجاهِلينَ؛ فلا تَجعَلْ لهؤلاءِ علَينا مِن سَبيلٍ أو سُلطانٍ، ولا تَجعلْنا مغلوبِينَ لهم، أو لا تَجعلِ الظالمِينَ حاكِمينَ علينا؛ فإنَّهم لا يَرحَمون الرَّعيةَ. وقيل: لا تُسلِّطْ علينا مَلائكةَ العَذابِ في القَبرِ والنَّارِ.

فضل دعاء ((اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا))

  • روى أن هذا الدعاء يعد من أكثر الدعية التي كان يقولها سيدنا رسول الله صل الله عليه وسلم، وقد كان يوصي به أصدقاؤه وأصحابه وأهل بيته.
  • وذلك من أجل أن لا تستوطن الدنيا في قلوبهم وأن يعلموا ويؤمنوا بأن ملك الموت قادم لكل واحد منهم لا محاله وأن لكل واحد منهم وقت آتي له، وليتدبروا ما في الدعاء من عبر وعظات.

اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا

قد روى الإمام التِّرمذي في سنَنه من حديث ابن عمر – رضِي الله عنهُما – قال: قلَّما كان رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يقوم من مجلسٍ حتَّى يدعو بهؤلاء الدَّعوات لأصحابه: ((اللهُمَّ اقسِم لنا من خشْيتك ما يَحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتِك ما تبلِّغُنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تهوِّن به عليْنا مصيبات الدّنيا، ومتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييْتَنا، واجعله الوارِث منَّا، واجعل ثأْرَنا على مَن ظلَمنا، وانصُرْنا على مَن عادانا، ولا تجعل مُصيبتَنا في دينِنا، ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا ولا مبْلغ عِلْمِنا، ولا تسلِّطْ عليْنا مَن لا يرحمُنا)).

  • قوله: ((اقْسِم لنا من خشْيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك)) اقسِم: بمعنى قدِّر، والخشية: هي الخوف المقْرون بالعلم، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، والإنسان كلَّما خشِي الله – عزَّ وجلَّ – منعتْه خشْيتُه من الله أن ينتهك مَحارم الله؛ ولهذا قال: ((ما يحول بيْننا وبين معاصيك)).
  • قوله: ((ومِن طاعتك ما تبلِّغنا به جنَّتك)) يعني: واقسِم لنا من طاعتك ما تبلِّغُنا به جنَّتك، فإنَّ الجنَّة طريقُها طاعة الله – عزَّ وجلَّ – فإذا وُفِّق العبد بخشية الله واجتِناب محارمه والقيام بطاعتِه، نَجا من النَّار ودخل الجنَّة بطاعتِه.
  • قوله: ((ومِن اليقين ما تهوِّن به عليْنا مصيبات الدُّنيا)) اليقين: هو أعلى درجات الإيمان؛ لأنَّه إيمان لا شكَّ معه ولا تردُّد، تتيقَّن ما غاب عنك كما تُشاهد مَن حضر بين يديْك، قال ابنُ مسعود: اليقين هو الإيمان كلّه، فإذا كان عند الإنسان يقينٌ تامّ بما أخبر الله تعالى من أمور الغيب فيما يتعلق بالله – عزَّ وجلَّ – أو بأسمائه أو صفاته أو اليوم الآخر وغير ذلك، وصار ما أخبر الله به من الغيب عنده بمنزلة المشاهد، فهذا هو كمال اليقين، والدنيا فيها مصائب كثيرة، لكن هذه المصائب إذا كان عند الإنسان يقينٌ تامّ أنَّه يكفَّر بها من سيئاته، ويُرفع بها من درجاته – إذا صبر واحتسب الأجْرَ من الله – هانتْ عليْه المصائبُ، وسهلتْ عليْه المِحَن، مهْما عظمتْ، سواء كانت في بدَنِه، أو في أهْلِه، أو في ماله، روى مسلمٌ في صحيحه من حديث أبِي هُرَيْرة رضِي الله عنْه قال: لمَّا نزلت: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123] بلغتْ من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((قاربوا وسدِّدوا، ففي كلّ ما يصاب به المسلم كفَّارة، حتَّى النَّكبة يُنْكَبُها أو الشَّوكة يُشَاكُها)).